Articles مقالات

هل من الممكن فعلاً أن أنشِّىء أبنائي على النظام ويصبحوا منظمين؟

 

مفكرة الإسلام:

 سألني صديقي هذا السؤال مندهشًا، فهو يرى أن شأن الأطفال دائمًا هو الفوضى في كل شؤونهم؛ في مظهرهم وحجرتهم الخاصة، وأدراج لعبهم، بل وحتى أدواتهم الدراسية، فإذا شبُّوا وكبروا؛ فإنهم حينئذ يتعلمون النظام والترتيب!

 

فأجبته قائلًا:

لا يا صديقي العزيز، إن بإمكانك أن تنَشِّىء أبناءك على النظام والترتيب بيسر وسهولة، حتى لو كان داء الفوضى قد تسرَّب إليهم بالفعل؛ فالصغير سريع القبول للعلاج جدًا، لعدم وجود المعارِض عنده؛ من كبر أو عناد أو رياسة؛ فيمكن ترسيخ الخلق الحسن فيه بسهولة، كما أن غرس هذا الخلق والسلوك الحسن في نفس الصغير بداية؛ أمر ميسور إن شاء الله من خلال اتباع الخطوات الآتية:

 

 1- ضرب المثل والأسوة الحسنة:

أولًا: بنفسك: باكتسابك- عزيزي المربي- سلوكيات التنظيم؛ يتعلم أبناؤك هذا السلوك الراقي منك، فالقدوة الحسنة خير وسيلة لتعويد الطفل على النظام؛ إذ أن الطفل بطبعه ينمو على التقليد، ويقلد غالبًا من يحبهم ويعاشرهم لأوقات طويلة؛ كالوالدين والأشقاء ومجتمع المدرسة، فكونه ينمو ويكبر، وهو يرى مَن حوله من الكبار يمارسون النظام سلوكًا عمليًا في كل شؤونهم؛ يجعله هذا الوسط المنظم يتشرب سلوك النظام والترتيب؛ فلا يحسن غيره من الفوضى والبعثرة.

 

ثانيًا: الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في النظام:

قُصّ على طفلك مواقف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي يتجلى فيها خلق النظام؛ مثل موقف الهجرة إلى المدينة، كيف خطط لها النبى صلى الله عليه وسلم؟ ونظَّم أمور الهجرة، ووزَّع الأدوار على الصحابة الذين شاركوا معه، وكذلك بيان عاقبة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيمه للأمور، مثل ما حدث في غزوة أُحد، عندما خالف الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أماكنهم المحددة لهم.

 

ثالثًا: والصحابة الكرام:

وكيف لا وقد تخرَّج الصحابة الكرام رضي الله عنهم  في مدرسة النبوة، وتربوا فيها على النظام والتخطيط، فهذا أبو بكر الصديق يخطط وينفذ جمع القرآن بنظام محكم، وينظم الجيوش لفتح العراق والشام، وكذلك كان الفاروق عمر من بعده فذًّا في الإدارة والتخطيط والتنظيم، فهو أول من أنشأ الدواوين، وأول من نظَّم البريد، وأول من أرَّخَ للأمة بالتاريخ الهجري.

 

والملائكة الأبرار قدوة في النظام :

أخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم في أكثر من موضع أن النظام صفة أساسية من صفات الملائكة الأبرار في أعمالهم وعبادتهم، فقال تعالى في صدر سورة الصافات:] والصافّات صفًّا[، فهذا قسمٌ من الله تعالى بالملائكة، الذين يصفُّون أنفسهم صفًّا لعبادة الله تعالى، وقال تعالى أيضًا على لسان الملائكة، وهى تخبر عن عبادتها المنظمة لله تعالى: ]وإنّا لنحن الصافّون*وإنا لنحن المسبِّحون[.

وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الإقتداء بهم في ذلك فقال: [[ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربها؟]] قالوا: يا رسول الله، وكيف تصفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: [[يتمون الصفوف ويتراصون في الصف]]، رواه مسلم برقم:430.

  

2- التفكر في نظام الكون:

وجِّه أبناءك إلى النظر والتأمل في النظام الدقيق، الذي أبدع الله تعالى الكون وفطره عليه، والفِت أنظارهم إلى مواطن النظام في سير الكون من حولهم، فتقول: 

    انظر يا بنى: فالشمس تشرق كل يوم، فيأتي معها النهار حيث العمل والمذاكرة والحركة والنشاط، ثم تغيب فيأتي الليل حيث يظهر القمر، فتنام معظم المخلوقات وترتاح، ومن تقدير الله تعالى ونظامه المحكم في خلقه ألا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، بل هما يتعاقبان-يأتي أحدهما بعد الآخر- بحساب معلوم، ونظام لا يختل أبدًا، وكذلك الشمس لا تطلع أبدًا في الليل ولها ضياء، ولا يطلع القمر بالنهار وله نور، قال تعالى:] والشَمَسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍ لَها ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العًلِيم*وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيم*لَا الشَمْسُ يَنبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللَيلُ سَابقُ النَّهَارِ وَكُلٌ في فَلَكٍ يَسْبَحُون[ واختلال هذا النظام لا يكون-إن شاء الله تعالى- إلا عند انتهاء الدنيا وبداية الآخرة، وأن في ذلك إخبار من الله لنا أن حياة البشر ما دامت قائمة ومستمرة؛ فلا بد أن تكون منظمة، وأن اختلال النظام فيها يعني نهايتها.

 

النظام في المخلوقات:

تأمل -يا بنى- في ممالك الطير والحيوان والحشرات؛ تدرك كيف تعيش حياتها بنظام بديع، مثلًا: مملكة النحل، وهذا النظام الدقيق الذى تعيش به، فبالرغم من صغرها؛ إلا أنها تعيش حياة منتظمة، تصنع بيوتها من الشمع في أشكال سداسية متساوية الأضلاع في غاية من الدقة والإتقان، وكأنها قرأت كتاب إقليدس، هل تدرى لماذا؟ لأن المطلوب من الدُّور هو الوثاقة والسعة، والشكل المسدس دون سائر الأشكال، إذا انضمت بعض أشكاله إلى بعض؛ صار شكلًا مستديرًا كاستدارة الرحى، ولا يبقى فيه فروج ولا خلل، ويشد بعضه بعضًا، حتى يصير طبقًا واحدًا محكمًا، فعلمت النحل أنها تحتاج إلى أن تبني بيوتها من أشكال موصوفة بصفتين:

 إحداهما: ألا تكون زواياها ضيقة؛ حتى لا يبقى الموضع الضيق معطلًا ولكي، لا تتجمع فيه القاذورات.

الثانية: أن تكون تلك البيوت على أشكال إذا انضم بعضها إلى بعض؛ لا يبقى منها أى مساحة ضائعة، والشكل الذي تتوفر فيه هاتين الصفتين معًا هو الشكل المسدس، لا المثلث ولا المربع، فمن الذي علمها وهداها أن تبني بيوتها على هذا الشكل المتقن، بدون مسطرة أوآلة هندسية؟ إنه الله تعالى ] الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى[

 

وهذا النظام يحكم جميع جوانب حياة مملكة النحل، وإذا لم تتمكن من رؤية النحل وخليته؛ فإنك بالتأكيد قد رأيت النمل، أرأيت كيف يسير في نظام وخطوط مستقيمة؟ كل نملة تعرف دورها، وتعمل بنظام طوال فصل الصيف من أجل جمع الغذاء، وتخزينه لفصل الشتاء، وذلك بجهود متعاونة لمجموعة كبيرة من النمل، ألا يدلك ذلك يا بني، على أن الله تعالى يريد أن يعلمنا أنه بالنظام والعمل الجاد فقط تستطيع مخلوقات الله أن تعيش؟ ولكي يكون لنا فيها أسوة حسنة في النظام وحسن التدبير؟

 

والآن يا صديقي العزيز...

 إذا نجحت في الخطوتين السابقتين؛ فإنك تكون قد وضعت الأساس المتين لهذا الخلق الحضاري في نفوس أبنائك، وذلك من خلال الربط الرائع بالعقيدة والتوحيد في أبواب: الإيمان بالله تعالى والملائكة، وربطهم بشخص النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام كقدوة حسنة، ودرَّبتهم على عبادة التأمل التى تورث إيمانًا ويقينًا.